ثم تعجب من كثرة الأعمال القديمة لعلماء المالكية حول المدونة شرحا، وتعليقا، واختصارا وتهذيبا، وبيان مشكل ... و لا تجد أثرا لذلك كله في عالم المطبوعات اللهم إلا عملين، أحدهما طبع من قريب جدا.
الاسم والنسبة:
المدونة هو الاسم الذي رافق العمل الذي قام به الإمام سُحنون منذ البداية، ثم اصطلح المالكية على تسميتها بـ[المدونة الكبرى] و [الكتاب] و [الأم] فإذا وجدت هذه الأسماء في كتب المالكية؛ فهم يعنون بها المدونة لصيرورتها علما بالغلبة عليها، وربما كانت التسمية تمييزا لها عن تهذيب المدونة للبراذعي الذي أطلق عليه البعض: اسم المدونة.
وتنسب المدونة للإمام مالك – رحمه الله – بالنظر إلى أن أغلب الأقوال والاجتهادات التي تضمنتها هي له. وإلى هذا ذهب بعض القدماء، وألفرد بل، وشفيق شحاته من المعاصرين.
وتنسب لأبي عبد الله عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جُنَادة العُتَقي، أشهر تلاميذ الإمام مالك، وذلك لأنه الراوي لتلك السماعات والأجوبة عن الإمام مالك، ثم لتضمنها لكثير من آرائه واجتهاداته الخاصة، وممن ذهب لهذه النسبة ابن خلكان، و الشيخ محمد أبو زهرة، والأستاذ عبد الوهاب عبد اللطيف، وعبد الحفيظ بن منصور، وجلدزيهر ... في آخرين.
وتنسب – وهذه أصح – لأبي سعيد سُحنون بن سعيد بن حبيب التنوخي، واسمه عبد السلام، و سُحنون لقب له، وسمي < سحنون > باسم طائر حديد النظر، لحدته في المسائل، المدارك 4/ 46، وإنما نسبت إليه لأنه من صحح مسائلها عن ابن القاسم، ثم قام بتهذيبها، وترتيبها، وتذييلها بالآثار ... وغير ذلك مما يأتي – إن شاء الله -.
وعلى نسبتها للإمام سحنون جماعة كبيرة من الباحثين المعاصرين، منهم: محمد الطالبي، والأهواني، ومحمود علي مكي، وعبد المجيد التركي، وخليفة با بكر حسن ... وشاخت، وليفي برفنسال، وموراني ... وعدة.
بقيت نسبة رابعة: لأبي عبد الله أسد بن الفرات بن سنان، توفي بصقلية مجاهدا (213 هـ) وهذه نسبة قد اندثرت، ولا تذكر إلا عند الحديث عن أصل المدونة، وهذا ما نبحثه سراعا في الفصلة الآتية:
أصل المدونة:
يرجع الشيخ محمد الشاذلي النيفر في مقدمته لموطأ ابن زياد صـ 24 بأصل فكرة المدونة جمعا وتأليفا إلى الأسئلة التي توجه بها خالد بن أبي عمران التُجيبي قاضي تونس < تـ 127 هـ > من طرف أهل أفريقية إلى فقهاء المدينة، وبالفعل تمت الإجابة – بعد جهد - على تلك الأسئلة من طرف بعض فقهاء المدينة آنذاك، ورجع بها خالد بن أبي عمران لأهله بأفريقية ليعلموا بعض أمر دينهم.
ويبدو أن تلك الأسئلة وأجوبتها قد بقيت متداولة بين أهل أفريقية يتدارسها الطلبة عن شيوخهم ... ومن بين هؤلاء كان علي بن زياد – رحمه الله – تلميذ خالد بن أبي عمران، والذي اشتهر بعد ذلك بالعلم والفضل بين أهل أفريقية، وله الكتاب المعروف [خير من زنته] الذي تقدم ذكره، وهو في أصله سماعه من الإمام مالك لأجوبته المختلفة، فقام علي بن زياد بتصنيف تلك الأجوبة على حسب أبواب الفقه، ودونها في ذلك الكتاب المذكور، ثم لمّا رحل أسد بن الفرات التلميذ النجيب لعلي بن زياد على المشرق يبدو أنه رغب أن يصنع مثلما صنع شيخه وشيخ شيخه خالد بن أبي عمران مع شئ من التوسع في ذلك، فكانت [الأسدية] التي هي أصل المدونة السُحنونية.
الأسدية:
كتاب الأسدية لأسد بن الفرات بن سِنان القَرَوِي (ت 213 هـ) أحد تلاميذ الإمام مالك، جاءه من القيروان بعد أن تحصل على شئ غير قليل من الفقه الحنفي على أساتذته بها، وكان شغوفا بالعلم حريصا على كثرة الأسئلة، حتى الافتراضية التي كان الإمام لا يحب الإكثار منها، فلما رأي منه الإمام ذلك، و تفطن لحرصه على العلم، قال له: ( .. هذه سلسلة بنت سليسلة، إن كان كذا كان كذا، إن أردت ذلك فعليك بالعراق، فقلت لأصحابي: تريدون أن تأخذوا العقارب بيدي؟ لا أعود إلى مثل هذا أبدا). ترتيب المدارك 3/ 292، رياض النفوس 1/ 256 – 257.
وهناك بالعراق كانت له صولات وجولات مع تلميذ أبي حنيفة الفقيه محمد بن الحسن – رحمه الله - فجمع عنه الكثير من المسائل، بعد محاورات و مناقشات طويلة، دوّن خلالها كل ذلك.
قال له محمد بن الحسن – وقد شكى إليه أسد كثرت الطلب عنده -: «اسمع مع العراقيين بالنهار وجئني بالليل وحدك تبيت معي وأسمعك» ترتيب المدارك 3/ 295. وفي رياض النفوس 1/ 258: «قال أسد: ورغب إلي محمد أن أزامله إلى مكة فزاملته فكنت أسأله عما أريد».
ويحدثنا القاضي في المدارك 3/ 295 عن بعض شأن أسد في العراق، ملخصا ذلك من عدة مصادر فيقول: (قال محمد بن حارث، وأبو إسحاق الشيرازي ويحيي بن إسحاق – وبعضهم يزيد على بعض -: رحل أسد إلى العراق فتفقه بأصحاب أبي حنيفة، ثم نعي مالك فارتجت العراق لموته، قال أسد: فوالله ما بالعراق حلقة إلا وذكر مالك فيها، كلهم يقول مالك، مالك، إنا لله وإنا إليه راجعون.
قال أسد: فلما رأيت شدة وجدهم عليه، واجتماعهم على ذلك ذكرته لمحمد بن الحسن، وهو المنظور فيهم، وقلت له لأختبره: ما كثرة ذكركم لمالك على أنه خالفكم كثيرا؟
فالتفت إليّ وقال لي: اسكت، كان والله أمير المؤمنين في الآثار.
فندم أسد على ما فاته منه، وأجمع أمره على الانتقال إلى مذهبه فقدم مصر).
قلت: وهناك دُلّ على ابن القاسم أفقه تلاميذ مالك وأكثرهم له ملازمة، فعارضه بما دونه في العراق، وكان قد كتب بأسئلة صيغت صياغة عراقية، ولب جوابها من فقه الإمام أبي حنيفة – رحمه الله – فأجابه ابن القاسم – رحمه الله – بفقه مالك وأهل المدينة. وطلب منه في نهاية المطاف أن يعرض جوابه على أصوله المسموعة، ليحرر الروايات ويدقق السماع.
ولما عاد أسد بما حمل من علم إلى القيروان سرعان ما انتشرت كتبه بين الطلاب، وحصل لأسد بسببها رئاسة عظيمة، وتنافس بعضهم على نسخها وسماعها، بينما أنكر آخرون ما أتى به أسد بن الفرات، وقالوا: ( ... جئتنا بإخال وأحسب، وتركت الآثار وما عليه السلف) انظر لمزيد من التفصيل حول الأسدية وقصة تدوينها وجمعها: رياض النفوس 1/ 260 – 264،و ترتيب المدارك 3/ 296 - 300.
¥