ـ[الفهمَ الصحيحَ]ــــــــ[02 - 03 - 06, 02:03 ص]ـ
من الأسدية إلى المدونة:
عرفنا باختصار في المشاركة السابقة شيئا من قصة الإمام أسد بن الفرات مع أسديته، وما يمكن أن يكون حافزا له على جمعها وتدوينها، ثم وقعت الإشارة فيما تقدم إلى اختلاط المنهج الفقهي العراقي بالمنهج المدني في الأسدية شكلا ومضمونا ... ويبدو أن هذا الخلط بين المنهجين لم يعجب بعض فقهاء أفريقية، فكان منهم إنكار لعمل أسد هذا، وتقدم قولهم له: (جئتنا بإخال وأحسب، وتركت الآثار وما عليه السلف) فما كان منه إلا أن أجابهم بقوله: (أما علمتم أن قول السلف هو رأي لهم، وأثر لمن جاء بعدهم)؟ ولكن لم تقنع هذا الإجابة بعض علماء حاضرة القيروان، وكان من بينهم سحنون الذي سارع باقتناء نسخة من الأسدية وسار بها إلى إمام المالكية في زمانه، والتلميذ الأعلم بأقوال الإمام مالك واجتهاداته، عبد الرحمن بن القاسم – رحمه الله - ليصحح عليه ما دوّنه عنه أسد، وليكمل ما ارتأه أهل القيروان من نقص في عمله.
قال الدكتور محمد العلمي: (إلا أن الأسدية وبالرغم من الجهد المبذول فيها حوت نقائص كان لا بد من استدراكها، وأهم ما لوحظ عليها من ذلك ما يلي:
- نقص التوثيق النقلي، إذ الراجح أن ابن القاسم أملى جلها من حفظه لمسموعاته عن مالك، بدليل أنه «أجاب فيما حفظ من قول مالك بقوله، وفيما شك بإخال وأحسب وأظن .. » وبدليل أن ابن القاسم طلب من أسد مقابلة الكتاب بعد تمامه بأصوله المسموعة، استدراكا للخلاف والوهم.
- الاختلاط، فقد كانت الأسدية غير تامة التبويب.
- نقص الآثار والحديث ... ).
وقد أتم الإمام سحنون عمله هذا على مرحلتين، يحدثنا عنهما الدكتور محمد العلمي:
(المرحلة الأولى: رحل فيها سحنون إلى ابن القاسم لإتمام التوثيق النقلي والمقابلة بأصول سماعات ابن القاسم، قال: " فأخذ الكتب مني، ونظر إليها وتصفحها، وضرب على كثير منها وأبدل كثيرا". أخبار الفقهاء والمحدثين بالأندلس ص: 271."
فبدأ بالسماع عليه حتى استكملها، وأسقط منها ابن القاسم: (وأظن مالكا قال في هذه المسألة كذا وكذا، وإخال مالكا قال كذا وكذا). وقال – سحنون - لابن القاسم: < ما وقفت عليه من قول مالك كتبته، وما لم تقف عليه تركته، وتكلمتَ فيه بما يظهر لك من ذلك، والله يعينك. فأجاب عبد الرحمن إلى ذلك وتمم له ما أراد >. رياض النفوس 1/ 263.
وكان سحنون بمستوى رفيع من العلم، ودرجة عليا من الفقه، استطاع بها أن يتعاون مع ابن القاسم بأدوات علمية تامة، قال ابن حارث: «رحل سحنون إلى ابن القاسم وقد تفقه في علم مالك، فكاشف ابن القاسم من هذه الكتب مكاشفة فقيه يفهم، فهذبها مع سحنون». ترتيب المدارك 2/ 298.
المرحلة الثانية: مرحلة التدوين والتبويب، ثم الاستشهاد الأثري، وإضافة خلاف كبار أصحاب مالك، وقد اعتمد في الاستشهاد الأثري على موطأ علي بن زياد وابن وهب، ووكيع، وجامع الثوري وغيرهم كما يستشف من المدونة.
وكان أهم الأصحاب الذين أضاف خلافهم: أشهب، وابن نافع، وعلي بن زياد وابن وهب وغيرهم).
ثم بعد أن أتم سحنون تصحيحه للأسدية على يدي ابن القاسم – رحمه الله -، قام ابن القاسم بكتابة رسالة إلى أسد يأمره فيها أن يرد < مدونته > على مدونة سحنون، فلما وصله الكتاب وأراد العمل بما حواه أشار عليه بعض طلبته بترك ذلك، حفظا لهيبته ومكانته ... فقبل قول تلامذته، وترك العمل بقول ابن القاسم، وتمسك بكتابه الأسدية ... وتمسك سحنون بمدونته التي قدم بها، ونشرها وسمعها عليه أهل المغرب، و انتشر ذكرها في الآفاق، وعول الناس عليها وأعرضوا عن الأسدية، وغلب عليها اسم سحنون. رياض النفوس 1/ 263.
وبهذا ظهر للوجود الكتاب الثاني وهو المدونة أو المختلطة، وإنما سميت المختلطة لبقاء بعض أبوابها على أصل السماع لم ترتب، قال القاضي عياض في المدارك 3/ 299: (قال الشيرازي: «ونظر فيها سحنون نظرا آخر فهذبها وبوبها ودونها وألحق فيها من خلاف الأصحاب ما اختار ذكره، وذيل أبوابها بالحديث والآثار، إلا كتبا منها بقيت على اختلاطها في السماع، فهذه هي كتب سحنون المدونة والمختلطة، وهي أصل المذهب ... ). وبذا كانت المدونة نتيجة لجهود ثلاثة أئمة: أسد بن الفرات عالم المذهبين المالكي والحنفي، وابن القاسم الفقيه المالكي، الذي حوى جل علم الإمام
¥