وقال الإمام سحنون: (أفرغ الرجال فيها عقولهم، وشرحوها وبينوها، فما اعتكف أحد على المدونة ودراستها إلا عرف ذلك في ورعه وزهده، وما عداها أحد إلى غيرها إلا عرف ذلك فيه، ولو عاش عبد الرحمن أبدا ما رأيتموني أبدا). المدارك 3/ 300.
ونقل في المدارك 3/ 299 عن الشيرازي – رحمه الله -: ( ... وهي أصل المذهب، المرجح روايتها على غيرها عند المغاربة، وإياها اختصر مختصروهم، وشرح شارحوهم، وبها مناظرتهم ومذاكرتهم، ونسيت الأسدية فلا ذكر لها الآن ... ).
قال ابن أبي زيد – رحمه الله -: (من حفظ المدونة والمستخرجة لم تبق عليه مسألة) الديباج 2/ 256.
وقال في المعيار 12/ 24: (كان متأخروا الشيوخ إذا نقلت لهم مسألة من غير المدونة، وهي في المدونة موافقة لما في غيرها: عدوه خطأ).
قلت: أما اليوم فالأمر على عكس ذلك، فلا أحد – إلا ما قلّ جدا – يدري ما في المدونة ... واكتفى الناس بأخصر المختصرات.، بل بالمذكرات والكتب السهلة التناول.
قال الدكتور رفيق يونس المصري في كتابه [بحوث في فقه المعاملات المالية] ص159:
(ظن بعض العلماء ... أن المدونة عبارة عن فقه نظري لصنف من الفقهاء، أسموهم بالأَرأيتيين، من قولهم: أرأيت لو .. أرأيت لو ... ونحن نخالفهم في ذلك، فنرى أن الفقه المالكي في باب المعاملات فقه متطور جدا، وهذه الأسئلة والتفصيلات إنما تساعد على فهم المذهب فهما رياضيا محددا ودقيقا عز نظيره في المذاهب الأخرى.
والمدونة فوق ذلك، هي أشبه بكتب الفتوى، وتمتاز عنها بأنها دقيقة، لا تتسع لها كل العقول، ولا كل الأمزجة، فيسارع بعضها بالرفض غاضبا متململا، وربما أجال بعضهم النظر، حتى إذا لم يفهم رفض، مع أن الواجب تعليق ما لا نفهم والتوقف فيه، مثال هذا مثال من يدخل إلى المدرسة للتعلم؛ حتى إذا ما وجد صعوبات التحصيل ومشقات الارتقاء غضب، وأضرب عن العلم، صائحا مستنكرا شاتما.
لو نظرت إلى المدونة نظرة فحص وإمعان لوجدت نوادر من المسائل والدقائق والمصطلحات ربما لم تجد من يشرحها ويطورها، حتى من بين أتباع المذهب نفسه.
وهذا يدلك على مبلغ ما وصل إليه ذكاء الإمام مالك – رحمه الله – ونفعنا بعلمه وعمله، ودقة نظره، وعمق تفكيره.
اللهم لا تحرمنا من علم إمام، ولا تجعل خطأه أو طبعه حائلا دون انتفاعنا بما عنده).
ـ[الفهمَ الصحيحَ]ــــــــ[03 - 03 - 06, 05:55 م]ـ
والمدونة هي أصل كتب المالكية ومنبع علمهم فوقعت عليها الشروحات و التعليقات ومنها الاختصارت والتحريرات.
الحمد لله:
أردت بالمشاركة السابقة تقرير واقع موجود بين المالكية في نظرهم لمدونة سحنون – رحمه الله – وبيان أهميتها عندهم ... لتكون المشاركة طليعة لكلام أخي الفاضل زياد فيما ذكره – حفظه الله – عن منزلة المدونة عند المالكية، وقد كنتُ قبل كتابة تلك النبذة أقدم رجلا وأؤخر أخرى لكتابة كلمة حول موقف الناس من أقاويل أهل العلم واجتهاداتهم ... ثم أتبعه بأسطر أبين فيها سبب اهتمام العلماء باجتهادات الأئمة الفقهاء – رحمهم الله – تدوينا وشرحا ... بل قياسا وتخريجا عليها ... وقد كنتُ أرى أني قد اكتفيتُ في الأمر الأول بما أومأت إليه إيماءا عند تقديمي لكلام الحافظ الذهبي على غيره، وتمييز بعض فقره بالتلوين والخط، وختامي بكلام الفاضل محمد رفيق المصري، ولكن يبدو أن ذلك لم يفطن له بعض الأحباب، فسبق إلى ذهنه أمر لم يخطر لي ببال، وكنتُ أظن أني دفعتُه في أول المقال ... فأقول وبالله أستعين:
لا زال انقسام الناس حول أقوال الأئمة المجتهدين، والفقهاء المفتين منذ قديم الدهر على حاله لم يتغير؛ طرفان ووسط.
أما الطرف الأول: فأهل التعصب المقيت، والتقليد المحض لأقوال الفقهاء الكبار المتبوعين، وأتباعهم من تلاميذهم المجتهدين ... يرون فيها الحق الخالص، والصواب الذي لا تشوبه شائبة، ولا يقبلون من أحد كائنا من كان تخطئةٍ لهم، أو تعقبا على اجتهاداتهم وأحكامهم ... وصَاحَب ذلك تمجيد وتعظيم لهم ولأرائهم بلغ مبلغ التقديس، وربما أكبر من ذلك ... ومن أسباب ذلك محاولةُ إقناع أنفسهم – وغيرهم – بصواب موقفهم العاثر من أقوال مقَلَديهم من الأئمة الأعلام واجتهاداتهم ...
¥