الطرف الثاني: من يرى اجتهادات الأئمة الفقهاء، وغيرهم من أهل الاجتهاد؛ رأيا محضا، بل زبالة أفهام ... بل هي وأقوال أهل القوانين الوضعية سواء ولا فرق ...
وقد كانت معاناة الإسلام وأهله من أصحاب هذين الموقفين عظيمة؛ فبالأولين جمدت القرائح، وتعطلت العلوم ... وتباعد الفقه الإسلامي عن مواكبة حركة الحياة ... وكان شأن العلم والفقه في شريعة الله، ثم في نواميس الكون غير ذلك إطلاقا ...
وبالآخرين كثر الشغب والتشغيب ... وكثرت دعاوى منتحلي الاجتهاد في الشريعة السمحة ممن ليس له في ذلك أدنى نصيب؛ فجاءت غرائب الفتوى، وكثر الانفلات من الأحكام الشرعية، ووقع الاعتداء على أهل العلم والفضل من الأئمة الأعلام .... باسم مشروعية الاجتهاد، وحرية الرأي، والتعددية ... وغير ذلك من الكلام المحبب لنفوس أهل الزمان، بدون وعي لأبعاده ... وبدون استعداد للتحلي بما في قولهم من بعض الحق ... بل هو كلام أجوف خرج من غير معتبرين ... وكلام حق يراد به التنصلُ من أحكام الدين.
وأما أهل الوسط: فهم أهل الحق والصدق ... نظروا لأراء أهل العلم والفضل من الأئمة المفتين واجتهاداتهم؛ نظر الحاذق البصير، والعارف الخبير، فعلموا يقينا أن هذه الآراء والاجتهادات - وإن كانت صادرة من متأهلين حقا وصدقا - لكن هذا لا يمنع من عرضها على ميزان العدل والإنصاف، الكتاب والسنة ... فما وافقهما فهو الرأي الصائب ... وما خالفهما فاجتهاد لصاحبه أجر واحد، والحق يُلزمنا بإتباع ما صح دليله شرعا أو عقلا، مع بقاء تقديرنا ومحبتنا لصاحبه ... فمن أخطأ منهم في هذه ... فقد أصاب في عشرات غيرها.
ثم ترقوا في نظرهم إلى أكثر من ذلك؛ لما علموا أن هذه الاجتهادات ما هي إلا دليل لأهل العقل الرجيح، والفهم الصحيح ... لاقتحام مرتبة الفتوى، والجلوس لنفع الأمة في ما يستجد من نوازل ووقائع لمعرفة حكم الشريعة الغراء، حتى يسير موكب الإسلام مطمئنا بأهله ... وأن عليهم النظر في المصدرين الباقيين المعصومين الكتاب والسنة مثلما نظر أولئك الأفذاذ، مستضيئين بمناهجهم التي أَلِفُوها، وطرائقهم العلمية التقية النقية في استنباط الأحكام التي خبروها وعرفوها ... فمهمة الدليل الإيصال إلى أول السبيل، ثم ما هو إلاّ الاعتماد على النفس - بعد توفيق الله - لاستكمال السير في طريق أهل الفضل ... تماما كما فعل تلميذ الإمام المبجل أحمد بن حنبل – رحمه الله – الملقب بـ < ريحانة > فيما ذكره عنه صاحب الطبقات ابن أبي يعلى في ترجمته، من أنه رمى بكتبه في البحر، وعلل ذلك بأنها دليل، ولا يُشتغل بالدليل بعد الوصول ...
ولكن أهل هذا المنهج السديد الذين تحلوا به حقا وصدقا؛ اليوم أعز من الكبريت الأحمر ... أما الدعاوى العريضة فيحسنها كل أحد، وأصحابها قد ضاقت بهم الدنيا.
قال العلامة الطاهر ابن عاشور – رحمه الله – في كتابه الماتع < أليس الصبح بقريب > 179 – 180 وهو يعدد أسباب تأخر العلوم: (السبب السادس: شعبة عما قبله، وهو الإعجاب بآراء المتقدمين كيف كانت، وتنزيهها على الخطأ، فانحصر العلم في نقل واحد عن آخر، وربما وجدتَ في التآليف نقل قولين متجانبين وهما متضادان، من غير أن يبحث المؤلف في صحة أحدهما، فإذا بان له الخطأ وعسر التصحيح بوجه تلعثموا وأصلحوا الكلام بكل تكلف، من قلب الحقيقة للمجاز، وتقدير مضاف، وجعل الجزئي كليا، ونحو ذلك، ومن العجائب أنهم يردون قول من لا يعجبهم قوله بقول غيره ...
أما القواعد العلمية التي أسسها لنا السلف؛ فإن الطالب يقرأها ويكتسبها لتخدم فكره لا لتستعبد أفكاره، ومتى استأسرت القواعد الأفكار بان خطأ النظر.
واعلم أنا متى اقتصرنا في تعليماتنا على ما أسسه لنا سلفنا، ووقفنا عندما حددوا، رجعنا القهقرى في التعليم والعلم لأن اقتصارنا على ذلك لا يؤهلنا إلاّ للحصول على بعض ما أسسوه، وحفظ ما استنبطوه، فنحن قد غُلبنا بما فاتنا من علومهم ولو قليلا، أما متى جعلنا أصولهم أسسا لنا نرتقي بالبناء عليها، فإنا لا يسوءنا فوات جزء من تعلماتهم متى كنا قد استفدنا حظا وافرا قد فاتهم.
السبب السابع: التقليد: وهو ناشئ عن الأسباب الماضية، فإن تداخل العلوم وحب المشاركة في جميعها، وحرمة الأقدمين لا بد أن يسلب من النفوس حكم النقد، فتفئ إلى التقليد، وتلك شنشنة قديمة أضرت العلوم الإسلامية، وقضت بالتفرقات الاعتقادية والفقهية، وقديما ما نعى الغزالي وأبو بكر الباقلاني وغيرهما على التقليد، ولكنّ الأكثرين اعتادوا ألاّ يُصيخوا إلى كلام العظماء إلا حيث جارى أهواءهم، وقد وجدتُ أن التقليد في العلوم هو الذي ينشئ الإعجاب لعالميها بما علموا، لأنهم ما قلدوا حتى غالطوا أنفسهم وظنوا أن ما علموه منزه عن الطعن والخطأ، فأصبحت مناظرتهم وانصياعهم عما علموا شيئا عسيرا، والبؤس العظيم للأمة إذا تداخلت العوائد والعلوم، وموهت بعض العوائد الباطلة بطلاء الدين أو الأصول، أما ما كان نظريا يتلقى عن دليل وبحث في إثبات صحته فإنه يهيئ المرء إلى تجويز الخطأ، ثم إلى الاعتراف به إن كان، فربما كان هذا السبب أصلا للسبب الذي قبله أو هما متوالدان).
¥