تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ذكر غير واحد من أصحاب كتب التراجم: (أن الإمام الطبري < تـ310 > قال لأصحابه: أتنشطون لنسخ تفسير القرآن، قالوا: كم يكون قدره؟ قال: ثلاثون ألف ورقة، فقالوا هذا مما يفني الأعمار قبل تمامه، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، كسلت الهمم، فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة، وكتاب التفسير هذا لم يؤلف أحد مثله).

وقد أكثر أهل العلم قديما وحديثا من العيب على طريقة التصنيف التي تعتمد اختصار العلوم، أو اختصار كتب السابقين التي شأنها البسط ... وذلك لأسباب موضوعية ارتأوها، وكان لبعض علماء المالكية دور كبير في انتقاد هذه الطريقة في التصنيف رغم انتشارها في مصنفات المذهب منذ وقت مبكر نسبيا، وتتابعِ الكثيرين من أتباع المذهب بصورة مطردة في هذا الإتجاه، حتى تفننوا وتسابقوا في الاختصار إلى درجة الإخلال .. مما دعا إلى ازدياد وتيرة الانتقاد ولكن بدون فائدة تذكر .. ونجد بعض الإشارات المبكرة في انتقاد الاعتماد على المختصرات، وبيان عيوبها؛ فيما ينقله ابن رشد الجد في مسائله 1/ 642 عن جماعة من الشيوخ في نهيهم عن الاعتماد على المختصرات، وكذا عند أبي بكر ابن العربي و القباب والشاطبي ... انتهاءا بالشيخ محمد الحجوي الثعالبي في < الفكر السامي > والعلامة الطاهر ابن عاشور في < أليس الصبح بقريب > ونكتفي هنا بقل نص واحد عن العلامة ابن خلدون في < المقدمة > والذي يعد أفضل من وضح رأي من ذكرنا وغيرهم في انتقاد عمل المختصرات، واعتمادها في التعليم، قال 532 – 533:

(الفصل الثامن والعشرون في أن كثرة الاختصارات المؤلفة في العلوم مخلة بالتعليم:

ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق والأنحاء في العلوم، يولعون بها ويدونون منها برنامجا مختصرا في كل علم، يشتمل على حصر مسائله وأدلتها، باختصار في الألفاظ، وحشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفن، وصار ذلك مخلا بالبلاغة، وعسرا على الفهم، وربما عمدوا إلى الكتب الأمهات المطولة في الفنون للتفسير والبيان فاختصروها تقريبا للحفظ، كما فعله ابن الحاجب في الفقه، وابن مالك في العربية والخونجي في المنطق، وأمثالهم، وهو فساد في التعليم، وفيه إخلال بالتحصيل، وذلك لأن فيه تخليطا على المبتديء، بإلقاء الغايات من العلم عليه، وهو لم يستعد لقبولها بعد، وهو من سوء التعليم - كما سيأتي - ثم فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتزاحم المعاني عليها، وصعوبة استخراج المسائل من بينها؛ لأن ألفاظ المختصرات تجدها لأجل ذلك صعبة عويصة، فينقطع في فهمها حظ صالح عن الوقت، ثم بعد ذلك فالملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات إذا تم على سداده ولم تعقبه آفة؛ فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة بكثرة ما يقع في تلك من التكرار والإحالة المفيدين لحصول الملكة التامة، وإذا اقتصر على التكرار قصرت الملكة لقلته، كشأن هذه الموضوعات المختصرة، فقصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلمين، فأركبوهم صعبا يقطعهم عن تحصيل الملكات النافعة وتمكنها، ومن يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له والله سبحانه وتعالى أعلم).

ويبقى هنا أن أشير إلى أمرين: الأول: أنه مهما قيل في عيب عمل المختصرات والتلخيصات، وسوء الاعتماد عليها؛ مع هذا يظل عمل المختصرات فنا رائجا احتاجه الناس من قديم الزمان، واعتمدوا عليه في تحصيل العلوم .. وتزداد الحاجة إليه كلما ضغطت الحياة بثقلها على الناس .. وصعب عليهم أمر المعاش .. أو عندما يؤثر البعض الدعة والرفاهية على ما يحتاجه العلم الرصين من بذل النفس والنفيس في تحصيله .. والذي أريد قوله: أنه ينبغي اعتماد أسس وضوابط أكثر علمية يسير عليها المختصرون للكتب والعلوم، وذلك كي نتجنب – قدر الإمكان – المساوئ المتعددة للمختصرات، وهذه القواعد والأسس إن أهمل المتقدمون الكتابة فيها، اعتمادا على ثقافتهم العلمية الواسعة .. ومراعاتهم لبعض الضوابط الاجتهادية الفردية في هذه العملية عند تصنيفهم = فقد كتب المعاصرون شيئا غير قليل حولها لكي يتم النجاح قدر المستطاع في عمل المختصرات، ليؤتي هذا العمل الثمار المرجوة منه. وقد رأيت أحدهم استضاء بنص اقتنصه من مقدمة < التلخيص في علوم البلاغة > لجلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني < تـ 740 >، أشار فيه القزويني عرضا لبعض المعايير التي ينبغي أن تراعى عند اختصار الكتب وتلخيصها.

الأمر الثاني: إشارة بعض المعاصرين إلى التفريق بين الاختصار، وبين التلخيص .. فجعل مفهوم الأول: الإيجاز الشديد في القول، وحذف الزيادات .. مع كثرة المعاني، وأضاف إلى مفهوم الثاني – زيادة على معنى الإيجاز الذي تفيده الكلمة –: الشرحَ والبيانَ لما يكون قد التبس في الكلام المختَصَر، وبهذا يصبح الاختصار خطوة من خطوات التلخيص.

قلت: وقد تداخلت هذه المعاني عند المتقدمين، فما رأيتهم يفرقون من الناحية النظرية بين الاختصار والتلخيص، بل يسمون بكليهما، مع ملاحظة أن المصنف الموسوم بالاختصار ربما يكون قد تضمن ما أفاده معنى التلخيص الذي أشار إليه الباحث .. ، وبهذا تداخل المعنيان عندهم عمليا، و ستأتي الإشارة إلى هذا المعنى عند الحديث عن اختصار المدونة لأبي محمد بن أبي زيد القيرواني – رحمه الله - وتهذيب البرادعي، والله أعلم.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير