قلت: ومن المقرر عند العلماء أن من عرف حجة على من لم يعرف، قال ابن عدي في " الكامل " (2/ 439) عليه:
" ولعزة حديثه لم يعرفه يحيى، وأرجو أنه لا بأس به ".
فهذان إمامان عرفا الرجل ووثقاه، ويضم إليهما توثيق ابن حبان إياه (4/ 178)، وقول ابن سعد: " كان معروفا "؛ أي: بالعدالة كما حققته في الاستدراك الذي سبقت الإشارة إليه، فما الذي جعل هذا المغرور الذي أهلكه حب الظهور، ولو بالطعن في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم على مخالفة القاعدة العلمية المنطقية: من عرف حجة على من لم يعرف؟!
ومن تمام تدليسه وغمزه إياي قوله عقب ما تقدم نقله عنه:
" ومن حسَّن أمره ليس كمن تكلم فيه "!
يشير إلى توثيقي إياه بعموم قولي في المكان المشار إليه من " الصحيحة ":
" قلت: ورجاله ثقات، غير مالك بن أبي مريم. . . ".
إذا عرفت هذا فقد ذكرني قوله المذكور بالمثل المشهور: رمتني بدائها وانسلت، وذلك لأن لفظة: " حسن أمره " إنما يعني بها التوثيق، ولكنه عدل عن هذا إليها، لأنه لو صرح فقال: " ومن وثّقه ليس كمن تكلم فيه " لأصاب به الدارمي وابن عدي لأنهما هما اللذان وثقاه كما تقدم، فعدل عنه إلى تلك اللفظة مكرا منه وتدليسا، موهما القراء أني تفردت بتحسين أمره، والواقع - كما رأيت - أني متبع، وهو المبتدع، لأن قوله: " من تكلّم فيه " إنما يعني به قول ابن معين المتقدّم، " لا أعرفه "، وإنما يعني أنه لم يعرفه بجرح ولا بعدالة، وهذا ليس جرحا ولا تضعيفا، ولا يصح أن يقال في حقه: " تكلّم فيه " في اصطلاح العلماء، فقول المبتدع المتقدم: " فيه ضعف " مخالف لقول ابن معين هذا فضلا عن قول من وثقه، فهو مخالف لجميع أقوال الأئمة فيه، فصدق فيه المثل المذكور، ونحوه: " من حفر بئرا لأخيه وقع فيه "!
ومعذرة إلى القراء الكرام من هذه الإطالة ونحوها، مما نحن في غنى عنها، لولا الرد على أعداء السنة الصحيحة، والكشف عن زيفهم وطرق تدليسهم.
وأما المتابع الآخر، فهو إبراهيم بن عبد الحميد بن ذي حماية عمّن أخبره عن أبي مالك الأشعري أو أبي عامر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم في الخمر والمعازف.
هكذا أخرجه البخاري في ترجمة إبراهيم هذا من " التاريخ الكبير "، فقال: (1/ 1 / 304 - 305): قاله لي سليمان بن عبد الرحمن قال: حدثنا الجرّاح بن مليح الحمصي قال: ثنا إبراهيم.
قلت: وهذه متابعة قوية لمالك بن أبي مريم وعطية بن قيس؛ فإنه من طبقتهما، فإن كان المخبر له هو (عبد الرحمن بن غنم)، فهو متابع لهما كما هو ظاهر، وإن كان غيره، فهو تابعي مستور، متابع لابن غنم، وسواء كان هذا أو ذاك، فهو إسناد قوي في الشواهد والمتابعات، رجاله كلهم ثقات- باستثناء المخبر - مترجمون في " التهذيب "، سوى إبراهيم بن عبد الحميد هذا، وهو ثقة معروف برواية جمع من الثقات في " تاريخ ابن عساكر " (1/ 454 - 455) وغيره، وبتوثيق جمع من الحفاظ، فقال أبو زرعة الرازي:
" ما به بأس ".
وقال الطبراني في " المعجم الصغير ":
" كان من ثقات المسلمين ".
وقد عرفه ابن حبان معرفة جيدة، فذكره في " الثقات " وكنّاه ب " أبي إسحاق " وقال (6/ 13):
" من فقهاء أهل الشام، كان على قضاء (حمص)، يروي عن ابن المنكدر وحميد الطويل، وروى عنه الجرّاح بن مليح وأهل بلده، تحول في آخر عمره إلى (أنطرسوس)، ومات بها مرابطا ".
هذه أقوال أئمتنا في إبراهيم هذا تعديلا وتوثيقا، فماذا كان موقف مضعِّف الأحاديث الصحيحة منها، لقد تعامى عنها كلها، ولم يقم لها وزنا، كعادته، وابتدع من عنده فيه رأيا لم يقل به أحد من قبله، فقال في آخر مقاله المشار إليه سابقا:
" فإبراهيم فيه نظر، مترجم عند البخاري وابن أبي حاتم وابن حبان ".
فماذا يقول القراء في موقف هذا الرجل من أقوال أئمتنا، وتقديمه لرأيه القائم على الجهل والهوى؟ نسأل الله السلامة.
ثم لاحظت فائدتين في تخريج هذا الحديث:
الأولى: قول البخاري في روايته لحديث ابن صالح عن معاوية بن صالح:
" حدثنا عبد الله بن صالح " وهو أبو صالح، وقال في موضع آخر - كما تقدم -: " قال لي أبو صالح "، فهذا دليل قاطع على أنه لا فرق عند البخاري بين القولين: " حدثنا "، و: " قال لي "، وأن قوله: " قال لي فلان " متصل، وأنه ليس منقطعا كما زعم الجاهل بالعلم واللغة معا كما تقدم.
والأخرى: قول البخاري عقب حديث إبراهيم - فيه شك الراوي في صحابي الحديث بقوله: (أبي مالك الأشعري أو أبي عامر):
" إنما يعرف هذا عن (أبي مالك) ".
قلت: ففيه إشعار لطيف بأن (مالك بن أبي مريم) معروف عنده؛ لأنه قدم روايته التي فيها الجزم بأن الصحابي هو (أبي مالك الأشعري) على رواية شيخه هشام بن عمار التي أخرجها في " صحيحه " كما تقدم، وراية إبراهيم المذكورة آنفا، وفي كلٍّ منهما الشك في اسم الصحابي، فلولا أن البخاري يرى أن مالك بن أبي مريم ثقة عنده لما قدم روايته على روايتي هشام وإبراهيم، فلعل هذا هو الذي لاحظه ابن القيم رحمه الله؛ حين قال في حديث مالك هذا: " إسناده صحيح "، والله أعلم.
وخلاصة الكلام في هذا الحديث الأول: أن مداره على عبد الرحمن بن غنم، وهو ثقة اتفاقا، رواه عنه قيس بن عطية الثقة، وإسناده إليه صحيح كما تقدم، وعلى مالك بن أبي مريم، وإبراهيم بن عبد الحميد، وهو ثقة، وثلاثتهم ذكروا (المعازف) في جملة المحرمات المقطوع بتحريمها، فمن أصر بعد هذا على تضعيف الحديث، فهو متكبر معاند، ينصبّ عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر "، الحديث و فيه: " الكبر بطر الحق، وغمط الناس ".
رواه مسلم وغيره، وهو مخرج في " غاية المرام " (98/ 114)
حمل الرسالة كاملة من هنا ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/attachment.php?attachmentid=5750)
¥