وقال أبو داود السختياني: يدور على أربعة أحاديث: هذه الثلاثة , وحديث: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " وقيل: حديث " ازهد في الدنيا يحبك الله , وازهد ما في أيدي الناس يحبك الناس " قال العلاء: وسبب عظم موقعه أنه صلى الله عليه وسلم نبه فيه على إصلاح المطعم والمشرب والملبس وغيرها , وأنه ينبغي ترك المشتبهات , فإنه سبب لحماية دينه وعرضه , وحذرا من مواقعة الشبهات , وأوضح ذلك بضرب المثل بالحمى , ثم بين أهم الأمور , وهو مراعاة القلب فقال صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة ... إلى آخره) فبين صلى الله عليه وسلم أن بصلاح القلب يصلح باقي الجسد , وبفساده يفسد باقيه , وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (الحلال بين والحرام بين) فمعناه: أن الأشياء ثلاثة أقسام: حلال بين واضح لا يخفى حله , كالخبز والفواكه والزيت والعسل والسمن ولبن مأكول اللحم وبيضه وغير ذلك من المطعومات , وكذلك الكلام والنظر والمشي وغير ذلك من التصرفات , فيها حلال بين واضح لا شك في حله.
وأما الحرام البين فكالخمر والخنزير والميتة والبول والدم المسفوح , وكذلك الزنا والكذب والغيبة والنميمة والنظر إلى الأجنبية وأشباه ذلك.
وأما المشتبهات فمعناه أنها ليست بواضحة الحل ولا الحرمة , فلهذا لا يعرفها كثير من الناس , ولا يعلمون حكمها , وأما العلماء فيعرفون حكمها بنص أو قياس أو استصحاب أو غير ذلك , فإذا تردد الشيء بين الحل والحرمة , ولم يكن فيه نص ولا إجماع , اجتهد فيه المجتهد , فألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي فإذا ألحقه به صار حلالا , وقد يكون غير خال عن الاحتمال البين , فيكون الورع تركه , ويكون داخلا في قوله صلى الله عليه وسلم: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) وما لم يظهر للمجتهد فيه شيء وهو مشتبه فهل يؤخذ بحله أم بحرمته أم يتوقف , فيه ثلاثة مذاهب , حكاها القاضي عياض وغيره , والظاهر أنها مخرجة على الخلاف المذكور في الأشياء قبل ورود الشرع , وفيه أربعة مذاهب:
الأصح: أنه لا يحكم بحل ولا حرمة ولا إباحة ولا غيرها , لأن التكليف عند أهل الحق لا يثبت إلا بالشرع.
والثاني: أن حكمها التحريم.
والثالث: الإباحة.
والرابع: التوقف. والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (فقد استبرأ لدينه وعرضه)
أي: حصل له البراءة لدينه من الذم الشرعي , وصان عرضه عن كلام الناس فيه.
قوله صلى الله عليه وسلم: (إن لكل ملك حمى وإن حمى الله محارمه)
معناه: أن الملوك من العرب وغيرهم يكون لكل ملك منهم حمى يحميه عن الناس , ويمنعهم دخوله , فمن دخله أوقع به العقوبة , ومن احتاط لنفسه لا يقارب ذلك الحمى خوفا من الوقوع فيه , ولله تعالى أيضا حمى وهي محارمه , أي: المعاصي التي حرمها الله , كالقتل والزنا والسرقة والقذف والخمر والكذب والغيبة والنميمة , وأكل المال بالباطل , وأشباه ذلك , فكل هذا حمى الله تعالى من دخله بارتكابه شيئا من المعاصي استحق العقوبة , ومن قاربه يوشك أن يقع فيه , فمن احتاط لنفسه لم يقاربه , ولا يتعلق بشيء يقربه من المعصية , فلا يدخل في شيء من الشبهات.
قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله , وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)
قال أهل اللغة: يقال: أصلح الشيء وفسد بفتح اللام والسين , وضمهما , والفتح أفصح وأشهر , والمضغة: القطعة من اللحم , سميت بذلك لأنها تمضغ في الفم لصغرها , قالوا: المراد تصغير القلب بالنسبة إلى باقي الجسد , مع أن صلاح الجسد وفساده تابعان للقلب.
وفي هذا الحديث: تأكيد على السعي في صلاح القلب وحمايته من الفساد. واحتج بهذا الحديث على أن العقل في القلب لا في الرأس وفيه خلاف مشهور. ومذهب أصحابنا وجماهير المتكلمين أنه في القلب , وقال أبو حنيفة: هو في الدماغ , وقد يقال في الرأس , وحكوا الأول أيضا عن الفلاسفة , والثاني عن الأطباء: قال المازري: واحتج القائلون ; بأنه في القلب بقوله تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها} وقوله تعالى: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب} وبهذا الحديث , فإنه صلى الله عليه وسلم جعل صلاح الجسد وفساده تابعا للقلب , مع أن الدماغ من جملة الجسد , فيكون صلاحه وفساده تابعا للقلب , فعلم أنه ليس محلا للعقل. واحتج القائلون بأنه في الدماغ بأنه إذا فسد الدماغ فسد العقل , ويكون من فساد الدماغ الصرع في زعمهم , ولا حجة لهم في ذلك ; لأن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة بفساد العقل عند فساد الدماغ مع أن العقل ليس فيه , ولا امتناع من ذلك. قال المازري: لا سيما على أصولهم في الاشتراك الذي يذكرونه بين الدماغ والقلب , وهم يجعلون بين الرأس والمعدة والدماغ اشتراكا. والله أعلم.
قوله: (عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول , وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه)
هذا تصريح بسماع النعمان عن النبي صلى الله عليه وسلم , وهذا هو الصواب الذي قاله أهل العراق , وجماهير العلماء. قال القاضي: وقال يحيى بن معين: إن أهل المدينة لا يصحون سماع النعمان من النبي صلى الله عليه وسلم , وهذه حكاية ضعيفة أو باطلة , والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)
يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه من كثرة تعاطيه الشبهات يصادف الحرام , وإن لم يتعمده , وقد يأثم بذلك إذا نسب إلى تقصير.
والثاني: أنه يعتاد التساهل , ويتمرن عليه , ويجسر على شبهة ثم شبهة أغلظ منها , ثم أخرى أغلظ , وهكذا حتى يقع في الحرام عمدا , وهذا نحو قول السلف: المعاصي بريد الكفر , أي تسوق إليه. عافانا الله تعالى من الشر.
قوله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يقع فيه)
يقال: أوشك يوشك بضم الياء وكسر الشين , أي: يسرع ويقرب.
قوله
) أتم من حديثهم وأكبر)
هو بالباء الموحدة , وفي كثير من النسخ بالمثلثة. والله أعلم.
¥